هل يخلع المحكّم عباءة المحامي؟

تأملات في التحكيم التجاري

يُعدّ الحياد أحد أهم مرتكزات العملية التحكيمية، ليس بوصفه التزامًا أخلاقيًا فحسب، بل كشرطٍ جوهري في مشروعية القرار التحكيمي ذاته.

ومع اتساع دائرة ممارسة التحكيم من قِبل محامين سابقين، يثور التساؤل حول مدى قدرة المحكّم على التحرر من الخلفية المهنية المتجذّرة في الدفاع، والانتقال فعليًا إلى وضع الحياد الموضوعي، خاصةً في ظل تزايد النقاش الدولي حول أثر التحيّز اللاواعي في صناعة القرار القضائي والتحكيمي.

ما المقصود بإشكالية الحياد الإدراكي في سياق التحكيم؟

 الحياد الإدراكي يشير إلى قدرة المحكّم على معالجة النزاع دون أن تتأثر قراءته وتحليلاته بميوله أو خلفياته السابقة. وعلى عكس المحامي الذي يتبنّى موقفًا دفاعيًا بطبيعته، يُفترض في المحكّم أن يتجرد من هذا الانحياز وأن يركّز على الحقيقة وليس على الانتصار لطرف.

ما الفرق بين الحياد الشخصي، والحياد الظاهري، والحياد الإدراكي؟

الحياد الشخصي (الذاتي):

هو عدم وجود مصلحة مباشرة أو انحياز واعٍ لدى المحكّم تجاه أحد الأطراف.

الحياد الظاهري (الشكلي):

هو مظهر الحياد كما يبدو للغير، بحيث لا يُثير مظهر المحكّم الشك في استقلاليته.

الحياد الإدراكي (المعرفي):

هو الأصعب كشفًا، إذ يتعلق بطريقة فهم المحكّم وتحليله للمرافعات، وكيف يمكن لتحيّزاته اللاواعية أن تؤثر على قراراته دون إدراك مباشر منه.

كيف تؤثر التحيزات اللاواعية في قرارات المحكّمين؟ 

تؤكد الأدبيات أن المحكّمين، مثل غيرهم من البشر، يتأثرون بأنماط متعددة من التحيزات المعرفية، ومنها:

  • تحيّز التأكيد: حيث يبحث المحكّم عما يؤكد انطباعه الأولي بدلاً من اختبار صحته.
  • تحيّز المطابقة: حين يميل إلى مسايرة زميليه في الهيئة رغم اختلاف قناعته.
  • تحيّز السلطة: حين يُرجّح رأي محكّم ذي مكانة مهنية مرموقة لمجرد مكانته.

إلى جانب تحيّز تجنّب الخسارة، وتحيّز الإطار، والركون إلى الوضع القائم.

كل هذه الأنماط قد تؤدي إلى إضعاف الموضوعية، وتُخلّ بمبدأ الحياد دون وعي. 

ما دور الخلفية المهنية للمحكّم في تعزيز أو إضعاف حياده الإدراكي؟ 

 المحامون السابقون هم الأكثر عرضة للتأثر بالتحيزات الإدراكية، وذلك بسبب:

  1. طبيعة مهنة المحاماة، التي تقوم على الاصطفاف مع طرف، وصياغة المرافعة بأسلوب يخدم غاية محددة.
  2. تراكم العادات الذهنية الدفاعية، والتي تُبرمج العقل على البحث عن الثغرات وتبرير المواقف، وقد يستمر هذا النمط حتى بعد الانتقال إلى موقع التحكيم.

كيف يمكن للمحكّم أن يتحرر من هذه الأنماط الذهنية؟ 

لا يكفي أن يغيّر المحامي صفته إلى “محكّم”، بل لا بد من عملية “فصل ذاتي” واعية بين الأدوار. وهذا يتطلب جهدًا مستمرًا في مراجعة الذات، والانفتاح على النقد، وتبنّي أساليب تحليل جديدة تختلف عن نمط “الانتصار القانوني” المعتاد في عمل المحامي.

ما التوصيات التي يمكن أن تساهم في تعزيز الحياد الإدراكي في التحكيم؟ 

  • على المؤسسات التحكيمية أن تضع معايير تدريب وتقييم تراعي الجانب الإدراكي من الحياد.
  • على المحكّمين ممارسة أدوات مثل “المراجعة العكسية” (أي التفكير في النقيض المحتمل لقناعاتهم) و”النقاش المفتوح” مع الزملاء لتقاطع زوايا النظر.
  • كما أن تعزيز التنوع في تشكيل هيئات التحكيم – من حيث الخلفيات القانونية وأنماط التفكير – يُعد عاملًا مهمًا لتقليل أثر التحيّزات اللاواعية.

هل ينجح المحكّم في خلع عباءة المحامي؟

 ليس هناك إجابة بسيطة بنعم أو لا. النجاح في ذلك يتوقف على توفر بيئة مهنية واعية، ونظام تحكيمي يدرك أن الحياد الإدراكي لا يُفترض تلقائيًا، بل يُبنى ويُراقب ويُنمّى.

في الختام إن الفصل بين دور المحامي ودور المحكّم ليس معادلةً مستحيلة، بل هو أساس تقوم عليه نزاهة العملية التحكيمية بأكملها. ويتوقف هذا الفصل على مدى وعي الشخص بذاته، وممارسته المستمرة، وسعيه الحقيقي للتحرر من تحيّزاته السابقة. فالمحكّم النزيه هو من يسأل نفسه دائمًا: “هل أنا الآن في موقع المحامي أم في موقع المحكّم؟” 

ولأن اختيار المحكّم ليس بالأمر الهيّن، فإن من الضروري البحث عن من يتحلى بالنزاهة والاستقلالية، ويُدرك جيدًا طبيعة الدور الذي يؤديه. ومن هذا المنطلق، يبرز مكتبنا كمكتب متخصص في التحكيم، بقيادة المستشار محمد المزين، المحكّم ذو الخبرة العميقة في الفصل بين المهنتين، لدينا قسماً خاصاُ لقضايا التحكيم، هدفنا هو تحقيق العدالة . تواصل معنا.